الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
(مكية) وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها{واصبر على ما يقولون}المزمل: 10] والتي تليها؛ ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قوله تعالى{إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى}المزمل: 20] إلى آخر السورة؛ فإنه نزل بالمدينة. {يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} قوله تعالى{يا أيها المزمل} قال الأخفش سعيد{المزمل} أصله المتزمل؛ فأدغمت التاء في الزاي وكذلك المدثر . وقرأ أبي بن كعب على الأصل المتزمل و المتدثر وسعيد المزمل . وفي أصل المزمل قولان: أحدهما أنه المحتمل؛ يقال: زمل الشيء إذا حمله، ومنه الزاملة؛ لأنها تحمل القماش. الثاني أن المزمل هو المتلفف؛ يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى. وزمل غيره إذا غطاه، وكل شيء لفف فقد زمل ودثر؛ قال امرؤ القيس: قوله تعالى{يا أيها المزمل} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاثة أقوال: الأول قول عكرمة{يا أيها المزمل} بالنبوة والملتزم للرسالة. وعنه أيضا: يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر، وكان يقرأ{يا أيها المزمَّل} بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول، وكذلك المدثر والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه، أو الذي زمله غيره. الثاني{يا أيها المزمل} بالقرآن، قاله ابن عباس. الثالث المزمل بثيابه، قال قتادة وغيره. قال النخعي: كان متزملا بقطيفة. عائشة: بمرط طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة، ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء ولا إبريسما ولا صوفا، كان سداه شعرا، ولحمته وبرا، ذكره الثعلبي. قلت: وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا في المدينة. وما ذكر من أنها مكية لا يصح. والله أعلم. وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه. وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت{يا أيها المزمل}المزمل: 1] و قلت: وقد بينا أنها على حذف المفعول: وقد قرئ بها، فهي صحيحة المعنى. قال: وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه. قال السهيلي: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدثر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة؛ فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها؛ ك قوله تعالى{قم الليل} قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف. وحكى الفتح لخفته. قال عثمان بن جني: الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض. وهو من الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة؛ لا تقول: قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار. وقد قيل: إن {قم} هنا معناه صل؛ عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال. {الليل} حد الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقد تقدم بيانه في سورة البقرة . واختلف: هل كان قيامه فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا؛ وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي. واختلف أيضا: هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال: الأول: قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة. الثاني: قول ابن عباس، قال: كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله. الثالث: قوله تعالى{إلا قليلا} استثناء من الليل، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه؛ لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد. والقليل من الشيء ما دون النصف؛ فحكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: الثلث. {نصفه أو انقص منه قليلا} فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى{علم أن لن تحصوه}المزمل: 20]. وقال الأخفش{نصفه} أي أو نصفه؛ يقال: أعطه درهما درهمين ثلاثة: يريد: أو درهمين أو ثلاثة. وقال الزجاج{نصفه} بدل من الليل و{إلا قليلا} استثناء من النصف. والضمير في {منه} و{عليه} للنصف. المعنى: قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين؛ فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقيل: إن {نصفه} بدل من قوله{قليلا} وكان مخيرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه؛ كأن تقدير الكلام: قم الليل إلا نصفه، أو أقل من نصفه، أو أكثر من نصفه. وفي صحيح مسلم اختلف العلماء في وعن ابن عباس أيضا: هو منسوخ بقوله تعالى{علم أن سيكون منكم مرضى}المزمل: 20]. وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس. وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه}المزمل: 20]. قال أبو عبدالرحمن السلمي: لما نزلت{يا أيها المزمل} قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، ثم نزل قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه}المزمل: 20]. قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله؛ كما قال تعالى قلت: القول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى{وأقيموا الصلاة}المزمل: 20] فدخل فيها قول من قال إن الناسخ الصلوات الخمس. وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة. وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة. و قلت: حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله: (وإن قل) وباقيه يدل على أن قوله تعالى{يا أيها المزمل} نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون. وقد تقدم عنها في صحيح مسلم: حولا. وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا، لم يذكر غيره عنها. وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة؛ قال: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه. وفي نسخة عنه قولان: أحدهما: أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى. الثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته. وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولا، وقول عائشة ستة عشر شهرا. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف، ليميزه بفعل الرسالة؛ قاله ابن جبير. قلت: هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{ورتل القرآن ترتيلا} أي لا تعجل بقراءة القرآن بل أقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. وقال الضحاك: اقرأه حرفا حرفا. وقال مجاهد: أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه. والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام؛ ومنه ثغر رتل ورتل، بكسر العين وفتحها: إذا كان حسن التنضيد. وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب. و {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} قوله تعالى{إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} هو متصل بما فرض من قيام الليل، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله؛ لأن الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان، فهو أمر يثقل على العبد. وقيل: إنا سنوحي إليك القرآن، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. مجاهد: حلاله وحرامه. الحسن: العمل به. أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب: ثقيلا على المنافقين. وقيل: على الكفار؛ لما فيه من الاحتجاج عليهم، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم، والكشف عما حرفه أهل الكتاب. السدي: ثقيل بمعنى كريم؛ مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل علي، أي يكرم علي. الفراء{ثقيلا} رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل{ثقيلا} أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز، لا يزول إعجازه أبدا. وقيل: هو القرآن نفسه؛ كما قال ابن العربي: وهذا أولى؛ لأنه الحقيقة، وقد جاء {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا، إن لك في النهار سبحا طويلا} قوله تعالى{إن ناشئة الليل} قال العلماء: ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته، لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا؛ يقال: نشأ الشيء ينشأ: إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله؛ فناشئة: فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة، ومنه قوله تعالى بين تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن، أعظم للأجر، وأجلب للثواب. واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل؛ فقال ابن عمر وأنس بن مالك: هو ما بين المغرب والعشاء، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالأولية أحق؛ ومنه قول الشاعر: وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة: إنه بدء الليل. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار، وهو الذي اختاره مالك بن أنس. قال ابن العربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة. فقال يمان وابن كيسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ابن عباس: كانت صلاتهم أول الليل. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح: وناشئة الليل أول ساعاته. وقال القتبي: إنه ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضا: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات؛ حكاه الجوهري. قوله تعالى{هي أشد وطئا} قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة {وطاء} بكسر الواو وفتح الطاء والمد، واختاره أبو عبيد. الباقون {وطئا} بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، واختاره أبو حاتم؛ من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم. أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى{وأقوم قيلا{ أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار؛ أي أشد استقامة واستمرارا على الصواب؛ لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم. وقال أبو علي{أقوم قيلا} أي أشد استقامة لفراغ البال بالليل. وقيل: أي أعجل إجابة للدعاء. حكاه ابن شجرة. وقال عكرمة: عبادة الليل أتم نشاطا، وأتم إخلاصا، وأكثر بركة. وعن زيد بن أسلم: أجدر أن يتفقه في القرآن. وعن الأعمش قال: قرأ أنس بن مالك {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا{ فقيل له}وأقوم قيلا{ فقال: أقوم وأصوب وأهيأ: سواء. قال أبو بكر الأنباري: وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو. مصيب، إذا لم يخالف معنى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له، واحتجوا بقول أنس هذا. وهو قول لا يعرج عليه ولا يلتفت إلى قائله؛ لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها، لجاز أن يقرأ في موضع قوله تعالى{إن لك في النهار سبحا طويلا} قراءة العامة بالحاء غير معجمة؛ أي تصرفا في حوائجك، وإقبالا وإدبارا وذهابا ومجيئا. والسبح: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء؛ لتقلبه بيديه ورجليه. وفرس سابح: شديد الجري؛ قال امرؤ القيس: وقيل: السبح الفراغ؛ أي إن لك فراغا للحاجات بالنهار. وقيل{إن لك في النهار سبحا} أي نوما، والتسبح التمدد؛ ذكره الخليل. وعن ابن عباس وعطاء: (سبحا طويلا) يعني فراغا طويلا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، وقال الزجاج: إن فاتك في الليل، شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو وائل {سبخا} بالخاء المعجمة. قال المهدوي: ومعناه النوم روى ذلك عن القارئين بهذه القراءة. وقيل: معناه الخفة والسعة والاستراحة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد دعت على سارق ردائها: (لا تسبخي عنه بدعائك عليه). أي لا تخففي عنه إثمه؛ قال الشاعر: الأصمعي: يقال سبخ الله عنك الحمى أي خففها. وسبخ الحر: فتر وخف. والتسبيخ النوم الشديد. والتسبيخ أيضا توسيع القطن والكتان والصوف وتنفيشها؛ يقال للمرأة: سبخي قطنك. والسبيخ من القطن ما يسبخ بعد الندف، أي يلف لتغزله المرأة، والقطعة منه سبيخة، وكذلك من الصوف والوبر. ويقال لقطع القطن سبائخ؛ قال الأخطل يصف القناص والكلاب: وقال ثعلب: السبخ بالخاء التردد والاضطراب، والسبخ أيضا السكون؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد وتكون بمعنى السبح، بالحاء غير المعجمة. {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} قوله تعالى{واذكر اسم ربك} أي ادعه بأسمائه الحسنى، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة. وقيل: أي اقصد بعملك وجه ربك، وقال سهل: اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عما سواه. وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. وقال الكلبي: صل لربك أي بالنهار. قلت: وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار؛ إذ هو قسيمه؛ وقد قال الله تعالى قوله تعالى{وتبتل إليه تبتيلا} التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل؛ أي انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال: بتلت الشيء أي قطعته، ومنه قولهم: طلقها بتة بتلة، وهذه صدقة بتة بتلة؛ أي بائنة منقطعة عن صاحبها،؛ أي قطع ملكه عنها بالكلية؛ ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتل؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال: وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات. وقيل: إن أصله عند العرب التفرد؛ قال ابن عرفة. والأول أقوى لما ذكرنا. ويقال: كيف قال: تبتيلا، ولم يقل تبتلا؟ قيل له: لأن معنى تبتل بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل. قد مضى في المائدة في تفسير قوله تعالى {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا، وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا} قوله تعالى{رب المشرق والمغرب} قرأ أهل الحرمين وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحفص {رب} بالرفع على الابتداء والخبر {لا إله إلا هو}. وقيل: على إضمار {هو}. الباقون {رب} بالخفض على نعت الرب تعالى في قوله تعالى{واذكر اسم ربك} {رب المشرق} ومن علم أنه رب المشارق والمغارب انقطع بعمله وأمله إليه. {فاتخذه وكيلا} أي قائما بأمورك. وقيل: كفيلا بما وعدك. قوله تعالى{واصبر على ما يقولون} أي من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم. {واهجرهم هجرا جميلا} أي لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم، فإن في ذلك ترك الدعاء إلى الله. وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم، فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك؛ قاله قتادة وغيره. وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم. قوله تعالى{وذرني والمكذبين} أي أرض بي لعقابهم. نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين. وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. وقد تقدم ذكرهم في الأنفال . وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا. {أولي النعمة} أي أولي الغنى والترفه واللذة في الدنيا {ومهلهم قليلا} يعني إلى مدة آجالهم. قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر. وقيل{ومهلهم قليلا} يعني إلى مدة الدنيا. {إن لدينا أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما، يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا} قوله تعالى{إن لدينا أنكالا وجحيما} الأنكال: القيود. عن الحسن ومجاهد وغيرهما. واحدها نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة. وقيل: سمى نكلا، لأنه ينكل به. قال الشعبي: أترون أن الله تعالى جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله! ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم. وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال، والأول أعرف في اللغة؛ ومنه قول الخنساء: وقيل: إنه أنواع العذاب الشديد؛ قاله مقاتل. وقد قوله تعالى{يوم ترجف الأرض والجبال} أي تتحرك وتضطرب بمن عليها. وانتصب {يوم} على الظرف أي ينكل بهم ويعذبون {يوم ترجف الأرض}. وقيل: بنزع الخافض؛ يعني هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض والجبال. وقيل: العامل {ذرني} أي وذرني والمكذبين يوم ترجف الأرض والجبال. {وكانت الجبال كثيبا مهيلا} أي وتكون. والكثيب الرمل المجتمع - قال حسان: والمهيل: الذي يمر تحت الأرجل. قال الضحاك والكلبي: المهيل: هو الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس{مهيلا} أي رملا سائلا متناثرا وأصله مهيول وهو مفعول من قولك: هلت عليه التراب أهيله هيلا: إذا صببته. يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول، ومدين ومديون، ومعين ومعيون؛ قال الشاعر: و {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا، فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا، السماء منفطر به كان وعده مفعولا، إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} قوله تعالى{إنا أرسلنا إليكم رسولا} يريد النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} وهو موسى {فعصى فرعون الرسول{ أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكر موسى وفرعون؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون أزدرى موسى؛ لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى قال المهدوي: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدم ذكره؛ ولذلك اختير في أول الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. {وبيلا} أي ثقيلا شديدا. وضرب وبيل وعذاب وبيل: أي شديد؛ قال ابن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد؛ قال الأخفش. وقال الزجاج: أي ثقيلا غليظا. ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مهلكا (والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة) قال: واستوبل فلان كذا: أي لم يحمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مريء، وكلأ مستوبل وطعام وبيل ومستوبل: إذا لم يمرئ ولم يستمرأ، قال زهير: وقالت الخنساء: والوبيل أيضا: العصا الضخمة؛ قال: وكذلك الموبل بكسر الباء، والموبلة أيضا: الحزمة من الحطب، وكذلك الوبيل، قال طرفة: قوله تعالى{فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا} هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم. وفيه تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم. وكذا قراءة عبدالله وعطية. قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة: والله ما يتقى من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. و{يوما} مفعول بـ {تتقون} على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول {كفرتم}. وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: كفرتم والابتداء يوما يذهب إلى أن اليوم مفعول {يجعل} والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيبا في يوم. قال ابن الأنباري؛ وهذا لا يصلح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله. المهدوي: والضمير في {يجعل} يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف؛ كأنه قال: يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا. ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم {بكفرتم} وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا علق بـ {كفرتم} احتاج إلى صفة؛ أي كفرتم بيوم. فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها، احتججنا عليه بقراءة عبدالله {فكيف تتقون يوما}. قلت: هذه القراءة ليست متواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود فـ {يوما} مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها؛ أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرأ أبو السمال قعنب {فكيف تتقون} بكسر النون على الإضافة. و{الولدان} الصبيان. وقال السدي: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. والعموم أصح؛ أي يشيب فيه الضمير من غير كبر. وذلك حين يقال: وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز؛ لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة. ويقال: هذا وقت الفزع، وقيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق، فالله أعلم. الزمخشري: وقد مر بي في بعض الكتب أن رجلا أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب. قوله تعالى{السماء منفطر به} أي متشققة لشدته. ومعنى {به} أي فيه؛ أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال: مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى وفي التنزيل قوله تعالى{إن هذه تذكرة} يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل: آيات القرآن، إذ هو كالسورة الواحدة. {فمن شاء اتخذ إلى ربه} أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه {سبيلا} أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} قوله تعالى{إن ربك يعلم أنك تقوم} هذه الآية تفسير لقوله تعالى{قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه}المزمل: 4] كما تقدم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. {تقوم} معناه تصلي و{أدنى} أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام {ثلثي} بإسكان اللام. {ونصفه وثلثه} بالخفض قراءة العامة عطفا على {ثلثي}؛ المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ كقوله تعالى{علم أن لن تحصوه} فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون {ونصفه وثلثه} بالنصب عطفا على {أدنى} التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب؛ لأنه قال أقل من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم: إنما افترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم. قوله تعالى{والله يقدر الليل والنهار} أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. {علم أن لن تحصوه} أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره: لما نزلت{قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه}المزمل: 4] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتقخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم؛ فقال تعالى{علم أن لن تحصوه} و{أن} مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنكم لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا، وإن نقصتم شق ذلك عليكم. قوله تعالى{فتاب عليكم} أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدم؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل: معنى {والله يقدر الليل والنهار} يخلقهما مقدرين؛ كقوله تعالى قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة؛ أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي: مائة آية. الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية. قلت: قول كعب أصح؛ لقول عليه السلام: قلت: الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله. قال بعض العلماء: قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه} نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل{فاقرؤوا ما تيسر منه} معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا؛ لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره؛ وذلك لقوله تعالى{ قال القشيري أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب؛ كقوله تعالى قوله تعالى{علم أن سيكون منكم مرضى} الآية؛ بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. و{أن} في {أن سيكون} مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنه سيكون. سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم قوله تعالى{فاقرؤوا ما تيسر منه} أي صلوا ما أمكن؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية؛ قال البخاري وغيره، وعقد بابا ذكر فيه حديث إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله{فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}، {فاقرؤوا ما تيسر منه} محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة؛ فقال مالك والشافعي: فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث آيات؛ لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. ولصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي، على ما بيناه في سورة الفاتحة أول الكتاب والحمد لله. وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة؛ قال الماوردي: فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب؛ ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن؛ لأن الله تعالى يسره على عباده؛ قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن؛ حكاه جويبر. الثالث مائتا آية؛ قال السدي. الرابع مائة آية؛ قال ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة؛ قاله أبو خالد الكناني. قوله تعالى{وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. {وآتوا الزكاة} الواجبة في أموالكم؛ قال عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل أفعال الخير. وقال ابن عباس: طاعة الله والإخلاص له. قوله تعالى{وأقرضوا الله قرضا حسنا} القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة الحديد بيانه. وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله. قوله تعالى{وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو وكأنه تأول{وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا} أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشح والتقصير. {وأعظم أجرا} قال أبو هريرة: الجنة؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب {خيرا وأعظم} على المفعول الثاني {لتجدوه} و{هو}: فضل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الإعراب. و{أجرا} تمييز. {واستغفروا الله} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إن الله غفور} لما كان قبل التوبة {رحيم} لكم بعدها؛ قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة.
|